قصائد مُختارة للشَّاعر الإيطالي جوزبِّه أونغارِتِّي
Giuseppe Ungaretti (1888-1970)
تقديم
يمكنُ القول، حيالَ شعريَّةِ أونغارتِّي، إنَّها تعزيمٌ للُّغةِ ببهاءِ الأباطيل. العالَمُ لا يتشكَّل ويتملَّك نفسَه إلَّا في الأباطيل، ولا قياس له إلَّا في حضن الملغَى. الأباطيل هي الفجرُ الكلِّيُّ الفجرُ يدعى فجراً لأنَّه يجسِّدُ اللحظة الأشدَّ لقاحيَّةً، لحظةَ الانفجار والكثافة، عندما لا يتفتَّحُ الضِّدَّان إلَّا للتَّعانق والحلول؛ ومثل هذا الحدِّ الذي تبدو عندَه الأشياء في حالة بثٍّ متبادَلٍ، حيث الواحدُ يدفع خلائطَه في صلبِ الآخر، إنَّما هو الحدُّ النِّهائيُّ لإقامةِ الشِّعر؛ إنَّه بلغةِ أونغارِتِّي المرسى الدَّفين الذي على الشَّاعر أن يبلغه "قبل أن يَخرجَ إلى الضَّوء مع أغنياتِه ويذرَّها". الأباطيلُ، إذن، هي معبَرٌ وعبورٌ في آن؛ هي هذا الإلهابُ لكلامِ الشَّاعر، وهي كلامُ الشَّاعر. المتبقَّى مِن بعدِها، للشِّعر، إنْ هو إلَّا عدمٌ مضوَّأٌ بسرٍّ يناوئ الكشفَ والإخباء.
* * *
هكذا، يُعلي هذا الشِّعرُ وردةَ الأضداد؛ يدسِّمُها في أتْرُجَّةٍ واحدة.
فلِكي ينجوَ الإنسان، لا بدَّ من أن ينعقد الميثاق/ ميثاقٌ بين "ذلك الذي يدومُ وذلك الذي يزول"؛ وإذا كان ما يدومُ هو ما يؤسِّسه الشُّعراء، كما يقول هولدرلِن، فإنَّ نجاة الإنسان هي في ميثاقٍ يُعقَد بين الشُّعراء والآلهة، باعتبار أنَّ ما يزول هو صنيعُ هذه الأخيرة التي، منذ البدء، لم ترِد الأبديَّة إلَّا لنفسِها. الشَّاعرُ، مِن ثَمَّ، ليس أقلَّ من إله؛ إنَّه شريك الآلهة ومعادِلُها في إقامةِ هذا العالَم وفي هدمِه. أونغارِتِّي ينطلقُ شعريَّاً من هذه المعرفة؛ يفجِّرُ في اللغةِ اللغةَ بوصفِها رؤية لذلك العقد؛ لكنَّه يوقن أيضاً أنَّ مرقاة البشريَّة من آلامها لن تتأسَّسَ إلَّا فوق لحمِها البئيس العاجز. إنَّ مرقاةَ أونغارتِّي لا تتَّخذ شكلاً صعوديَّاً، بل هي دائرةٌ، أي أنَّها الحركةُ وفحواها معاً، وهذا فقط ما يجعل العقدَ الشِّعريَّ ممكناً.
* * *
مع ذلك، فقصيدة أونغارِتِّي التي تميل بعنفٍ نحو الآخر لا تعدمُ، في الوقتِ نفسِه، فتنةَ الإيحاش؛ وما ندعوه هرمسيَّةً في هذا الشِّعر إنَّما هو هذا السُّقوط في "المابَين" حيث اللازمن واللانهائيَّة والارتعاشُ الاستفاقيُّ للأشياء،- حيث يفتعلُ النَّاشئُ خواءَه، والخواءُ نشوءَه،- وحيث، ظلَّاً إثرَ ظلٍّ، يتعثَّرُ الضَّوءُ بالضَّوءِ في ضوءِ الغامضِ الذي ينهرُ العدمَ بالليلِ والأبدَ بالنَّهار. الهرمسيَّة، هنا، هي هذه الرَّجرجة في هواء القصيدة، إذ تُشرَّعُ على الكونيِّ نافذةُ الانكفاء، وتمتدُّ منها يدُ الشَّاعر بمطواةِ الشَّكِّ إلى عنقِ اليقين.
* * *
عمودُ اللعبةِ/ بدءاً:
سريرُ القصيدةِ صدرُ ثورِ التِّيه.
* * *
في قصيدة أونغارِتِّي نستطيع أن نختبرَ شِعريَّة التِّيه في صياغته الكونيَّة. "التِّيه" هنا يعني: تدارُك عزلةِ المفرَد عبر الولوج في عزلةِ القرين، كما لو بكلِّ الشَّهوات الأرضيَّة، كما لو بحنينِ كلِّ المجرَّات،- وكلُّ آخرَ قرينٌ. أونغارِتِّي يرفع منجزَ القصيدة إلى مقام التِّيه؛ لا يريدها أكثر من نردٍ في تصاريف السَّديم، أو ورقةٍ في مداولات الرِّيح: يريدها مقذوفةً بمِنقفِ الغيبِ على جصِّ التَّآويل. في إحدى قصائده يقول: "الآنَ أقرضُ/ مثلما يقرضُ طفلٌ ثدياً/ هذا الخواءَ"؛ وبذلك يعلنُ أنَّ كلَّ العلاماتِ أمام القصيدة باطلةٌ، و أنَّه لا أمومة للشَّاعر إلا الخواء.
النُّصوص:
حيثُ الضَّوء
مثل قبَّرةٍ مائجةٍ
في الرِّيح الجذلة فوق المروجِ البليلة،
تعالي خفيفةً إلى ذراعيَّ.
معاً سننسى هذه الحياة،
سننسى الشَّرَّ والسَّماء،
ودمي المندفعَ إلى الحرب،
وخطوَ الظِّلالِ المحترسة،
في حُمرةِ صباحاتٍ جديدة.
حيث الضَّوءُ لا يحرِّكُ ورقةً واحدة،
والأحلامُ والأحزان ولَّتْ إلى ضفافٍ أخرى؛
حيث حطَّ مساءٌ،
تعالي أحملكِ
نحوَ ربواتٍ مذهَّبة.
حُرَّين من تشيُّخِ السِّنين،
سيكون الزَّمن الثَّابتُ،
بهالتِه الضَّائعة،
دِثاراً لنا.
أيَّتها النَّجمة، يا نجمتي الوحيدة
أيَّتها النَّجمة، يا نجمتي الوحيدة
في عُدْمِ هذا الليلِ المستوحِد،
لأجلي، أنا وحدي، تشعِّين،
داخلَ عزلتي تشعِّين؛
لكنَّه جدُّ قصيرٌ، أيَّتها النَّجمة التي
لن تخبوَ أبداً،
وقتكِ الممنوح لأجلي،
أنتِ التي تغدقين عليَّ نوراً
لا يفعلُ شيئاً سوى
شحذِ اليأسِ في داخلي.
(مُبحِراً على غيمة)
لا أحدَ رآه يهوي،
لا أحدَ سمعَه يُحتضَر،
كان يطفو مسترخياً في أخدود،
يداه على صدرِه.
أغلقتُ عينيه.
(القمرُ خِمارٌ)
برقَّةِ ريشةٍ بدا.
سكونٌ
أينعَ العنبُ، والحقلُ محروثٌ.
الطَّودُ ينسلخُ عن الغمام.
فوق مرايا الصَّيف المغبَّرة
الظِّلُّ مطروحٌ.
بين الأصابعِ المتحيِّرة
وهجُ المرايا صافٍ
وسحيق.
صُحبةَ السُّنونوات
يندحرُ الضَّجرُ الأخير.
آصِرةٌ مريرة
كذا في إحدى ظهيراتِ أكتوبر
من أعالي الآكامِ المتآلفة
في ظُلَلٍ من هابطاتِ السَّحابِ الثِّقال
كانت أحصنة نسلِ زيوس،
التي وقف ذلك الفتى مرَّةً
حذاءَ حوافرها مذهولاً،
تتواثبُ فوق العُباب
(عبرَ الآصرةِ المريرة للذِّكريات
نحو ظلالِ أشجار موزٍ
وسلاحفَ ماردةٍ
جوَّابةٍ داخلَ كتلِ أمواهٍ
رحيبةٍ هامدة
تحت نظامٍ كوكبيٍّ آخر
بين طيور زُمَّجِ ماءٍ لا مثيل لها)
أحلِّق صوبَ السَّهلِ حيث كان الفتى إيَّاه
ينقِّبُ في الرِّمال،
ناشباً براثنه في العناصر الأربعة:
وضوحُ أصابعه الأثيرة
المبتلَّة بمطرٍ ساقته الرِّياح
مضطرمٌ بوميض الصَّواعق.
ولكنَّ الموت، هذا الحياد البارد،
الأعمى، كعهده دائماً، أمامَ كلِّ قانون،
كان يجُسُّه جسَّاً خفيفاً
بفمِه الماجن.
أيُّ آهةٍ
في عشيَّاتِ الصَّيف،
وأنت تتفشَّى مدوَّخاً،
أيُّها القمرُ المتراخي، يا شبحَ الغُمَّةِ
اليوميَّ، وشمساً قصوى،
أيُّ آهةٍ بعثتَ مِن جديد؟
أيُّها القمر الإلاحيُّ، بطيشٍ تمرُّ
مشوِّشاً الأرضَ في تهجاعها الرَّائق،
فتلتفتُ هي، كالهاذيةِ، نحوَ التَّائه،
تحتَ [كفِّ] مداعباتِكَ الملنخوليَّة،
ومثلَ أمٍّ تبكي،
لأنَّه لا نهارٌ تبقَّى له ولها
ولا حتَّى مُلاءةُ قمرٍ زائلة.
بدَّدتُ كلَّ شيءٍ
كلَّ أشياء الطُّفولةِ بدَّدتُها
ولن يكون بمستطاعي أبداً بعد الآن
تبديدَ نفسي في صرخة.
طفولتي وأدتُها
في طبقاتِ الليالي
والآن، سيفٌ غيرُ منظورٍ،
فصلَني عن كلِّ شيء.
أستذكرُ عهدَ كنتُ مغبوطاً في حبِّكِ،
وها أنذه مبدَّدٌ الآنَ
في هذا اللاتناهي الليلي.
الخيبةُ المنغرزةُ في حلقي،
التي باطِّرادٍ تقوِّي
الحياةَ، ليست بالنِّسبة لي
أكثرَ من جلمودِ صراخاتٍ.
صلاة
كم عذباً كان العالَمُ
قبلَ الإنسان.
هو الذي جعلَ نفسَه هُزءاً للشَّياطين،
سمَّى شهوتَه فردوساً،
وقضى بأنَّ أوهامَه خلَّاقة،
اللحظة تصوَّرَها خلوداً.
لشدَّ ما أثقلت الحياةُ كاهلَه،
مثلما يثقلُ جناحُ نحلةٍ ميِّتةٍ، هناك في الأسفل،
كاهل النُّمَيلةِ إذ تجرجرُه.
بين ذلك الذي يدومُ وذلك الذي يزول،
اجعل يا إلهي، أيُّها الحلمُ الثَّابتُ،
ذلك الميثاقَ ينعقد من جديد.
آهِ! آسِ هؤلاء الأبناء.
اجعل الإنسان يدركُ مرَّةً أخرى
أنَّكَ، وأنت المجبولُ من لحمٍ ودم، إلى الألوهةِ ارتقيت
عبر الألمِ اللامتناهي.
كُن الأحجيةَ، كُن المِيداء.
أيُّها الحبُّ المطهِّر،
اجعل مِن لحمِنا المدلِّس
مرقاةَ افتداء.
احتضارٌ
حبَّذا الموتُ مثل قبَّراتٍ عطشى
على تخومِ السَّراب
أو مثل السُّمانى
عندَ أوَّلِ أجَمةٍ
بعدئذْ جازتِ البحرَ
وفارقتها إلى الأبد
شهوةُ الطَّيران
ولبئس العيشُ متشكِّياً
مثل حسُّونٍ معمَّى
المرسى المدفون
ههنا يصلُ الشَّاعرُ
قبل أن يخرجَ إلى الضَّوءِ مع أغنياته
ويذُرَّها
من هذه القصيدة
لن يبقى لي
إلا ذلك العدم
عدمُ سرٍّ لا ينضب
النَّهارات والليالي
النَّهارات والليالي
ترنُّ
في قيثار أعصابي
فأتنفَّسُ
هذه الغبطة، غبطةَ الاعتلالِ
الكونيِّ
وأكابدُ
لأنِّي لا أحسِنُ إيقادَها
في كلماتي
الليلة الأبهى
أيُّ أغنيةٍ هذه التي ارتفعت الليلة
وحبكتِ النُّجومَ
بالصَّدى البلَّوريِّ للقلب
أيُّ فرحٍ انبجاسيٍّ
هذا المائرُ في القلب الزِّفافيِّ
لطالما كنتُ
بحرَةَ ظلامٍ
الآنَ أقرضُ،
مثلما يقرضُ طفلٌ ثدياً،
هذا الخواءَ
الآنَ ثملٌ أنا
بالكون
في عروقي
لكأنَّ في عروقي قبوراً خاويةً
[حفرتها] الشَّهوةُ الدَّائمةُ الهِياج،
لكأنَّ في عظامي المتجمِّدة حجراً،
وفي روحي ندماً مُغَشَّى،
إثماً لا يروَّض، ذوِّبْه ونقِّني؛
مِن النَّدم، مِن نباحِه المتواصِل،
في الغلَسِ الفائقِ الوصف،
في المِحبَسِ المروِّعِ،
حرِّرني، افكُكْ جفنَيك الرَّؤوفَين
من تغفيقكَ الطَّويل؛
رمزكَ الورديَّ المباغتَ،
ابعثْه ثانيةً، أيُّها العقلُ المولِّد،
وأدهِشْني من جديد؛
أنتَ المقنوطُ مِن انبعاثه،
المعيارُ الفائق، هِندازُ السَّلام؛
هَبني، في المشهدِ الأثيريِّ، قوَّةَ أن أنطقَ،
مرَّةً أخرى، كلماتٍ نقيَّة.
اختارها وترجمها وقدَّم لها أمارجي. انظر هنا إلى ترجمات إضافية وكذلك لمقابلة مع المترجم أمارجي اجراها الزميل أسامة إسبر.